الإبداع الفني عامة والأدبي بكل أجناسه على وجه الخصوص موهبة فطرية أودعها الخالق جل وعلا في ذات الإنسان المبدع .
وبدونها لا يتأتي له أن يعطي فنانا ناجحا بالمقياس الأساسي لمعنى الفن ونحن في هذه العجالة لا يسعفنا لمقام للتحدث عن كافة الفنون ودور الموهبة أو الإلهام في إبداعها ، وكيفية تنميتها عند بعض الناشئة من الشباب ممن يلمح عندهم ملكة الموهبة الإبداعية .
أما الموهبة فيمكننا القول بأنها هبة ربانية فطرية مستترة في ذات الإنسان ولا دخل للاكتساب في وجودها ، لذا فإن المبدع الموهوب نجده في بعض إبداعاته الأدبية يتميز بالأصالة وصدق العاطفة ورهافة المشاعر ، وهي الإلهام الذي تحدث عن الشعراء في الجاهلية وأوائل العصور الإسلامية عندما كانوا ينسبونه إلى الشياطين ، كما نسبة الإغريق من قبل إلى الجن ، فقال العرب أن لكل شاعر شيطانا يعلمه الشعر وينفث فيه من روحه أجمل القصير ، ولم يختلف العرب في مقولتهم هذه عن الإغريق الذي ربطوا بين الشعر والإلهام الإلهي الذي يمد به الجن الشعراء ، وما الشيطان عند العرب في الجالية سوى الروح الملهمة فهو الجن أو الروح المستترة ، وهو مصدر العبقرية نسبة إلى واد عبقر بالمدينة المنورة يقال أن الجن كانت تقطن آنذاك ويعرف بوادي عبقر .
وقد كان أفلاطون اليوناني أول من أشاد بدور الإلهام في إبداع الشاعر ، ولا يعتبر للشعر قيمة إلا إذا كان صادرا عن عاطفة مشبوبة ، وإلهام يعتري الشاعر فيما يشبه النشوة الصوفية ، والأمر ما زال قائما إلى اليوم حيث أن كثيرا من الكتاب المعاصرين لا يزالون يؤمنون بجوانب مستترة في إبداع الشعر لا تفسرها سوى الموهبة أو العبقرية ، أو الإلهام أو الخيال كما يفسره البعض أيضا ، وأري أنها تحمل مدلولا واحدا أساسه الموهبة وكل تلك الدلالات يعجز الإنسان عن أدراك سرها وشرحها لأنها من أمور السماء ، وهذا ما يدلل على عدم تمتع جميع البشر بهذه الموهبة ، وهي متفاوتة عند من تميز بها ، والشاعر المبدع مهيأ فطريا للعملية الإبداعية ، كما أنه معد لذلك أعدادا غيبيا معتمدا على ما منح من موهبة أو إلهام أو اللا شعور ـ كما يسميه علماء النفس ـ أكثر من اعتماده على كد الفكر وشحذ الذهن والمداومة على الكتابة .
غير أن معنى الموهبة أو الإلهام لا يعدو سوى انبثاق الفكرة الأولى ، بما تنيرها من قرائن تستغلها قريحة المبدع ، ثم يأتي دور المبدع ذاته في تكوين إبداعه وصباغته بصبغته الكاملة ، ومن المؤكد أن الموهبة لا تكفي لإيجاد مبدع وخلق عمل إبداعي إذ لا بد من تظافر كثير من العناصر الأخرى الفاعلة والضرورية ، والتي تلتحم مع بعضها لكي تهيئ لولادة القصيدة ، وهذه العناصر تعرف بالعاطفة والأفكار والأسلوب والموسيقا .
ونأتي إلى دور تنمية المواهب على افتراض وجودها عند بعض الناشئة وغيرهم ممن يلقى في دواخلهم الموهبة أو الملكة الشعرية – وإن كانت هذه المواهب قليلة بين طلاب المدارس حتى في المرحلة الثانوية .
ذكرت آنفا أن الموهبة منحة فطرية ربانية يودعها الخالق جل وعلا في ذوات البشر دون أن يتساووا في الاتصاف بها ، وهي في رأيي كائن حي ينمو ويتطور بالدربة والممارسة للعملية الإبداعية . وبدءا تستحب القراءة المتنوعة لتلون الثقافة المكتسبة من القراءة بألوان معرفية شتى تكون قاعدة ينطلق منها المبدع . ثم يأتي دور القراءة المتخصصة والمشابهة لنوعية الميول الإبداعية عن الناشئ الموهوب . فإن تفتفت موهبته شعرا يداوم على قراءة كتب الأدب وخصوصا دواوين الشعر وليبدأ بما يراه سهلا يمكن استيعابه ثم يتدرج في عملية الاختيار ، وهكذا ولا ينبغي أن تكون القراءة مسطحة ليس الغرض منها سوى قتل الوقت أو شغل الفراغ , بل يجب أن يصاحبها شيء من التعمق في العمل المقروء ليترك بصماته ثقافيا ولغويا على ذات القارئ لكي يتمكن في المقابل من الاستفادة من مخزونه الثقافي في تغذية موهبته وتنميتها , فهي كالجذوة المختبئة تحت الرماد إذا ما نبشت عنها ونفثت فيها اشتعلت وتوهجت ، وإذا أهملتها خبت وانطفأت ، وقدح الموهبة أو شحذ القريحة لا يكون بالغذاء الروحي فقط .
وفي المرحلة التالية يأتي دور الإشراف والتوجيه للناشئ الموهوب إذ لا بد لمن توافرت لديه الموهبة أن يشعر من لديهم المعرفة والخبرة في نوعية الإبداع الذي تفتفت عنه قريحته ، حتى يتمكن المشرف أو الموجه متابعة إبداعه ، وتقويمه وتصحيح ما أنتج من عمل فني سواء أكان قصيدة أو قصة قصيرة وما إلى ذلك ، وعلى المشرف أيضا أن يوجه الناشئ إلى ما يمكن الاستفادة منه عند القراءة فينصحه بقراءة كذا وكذا من الكتب المهمة التي يكون لها دور فاعل في تزويده بالذخيرة اللغوية والثقافية ، وما الدواوين الشعرية التي يبدأ بقراءتها في مراحله الأولى ثم الدواوين التي يستحسن قرأتها في مرحلة أو مراحل تالية .
ومن أدوار المشرف أو الموجه أن يتابع أنتاج الناشئ وألا يقلل من شأنه أو يضع الصعوبات أو العراقيل في طريقة حتى لا يصاب المبدع بالإحباط والفشل في بواكيره الأولى ، ومن هذا المنطلق نقترح أن تنشئ المدارس الثانوية على الأقل أندية أدبية على غرار الأندية العلمية الموجودة في بعضها لأن مثل هذه الأندية يهيئ فرص اللقاء بين الموهوبين من الطلاب وبين المدرسين الذين يكون في مقدورهم تبني مثل هذه المواهب الأدبية والإشراف عليها وتوجيهها الوجهة الصحيحة ،
كما لا يفوتنا دور المكتبة وأهميتها في مد الناشئ الموهوب بالثقافات المختلفة ، لأن الكتاب هو الوسيلة الأولى والأخيرة التي تبني عليها ثقافات الأمم إلى جانب الوسائل التثقيفية الأخرى ، فالمكتبة مطلب مهم ينبغي توفرها في كل بيت مثقف ، فإن تعذر وجودها في البيت فليس على الأقل من توافرها في المدرسة ، حتى تكون ملاذا معينا لكل طلابنا وللموهوبين منهم خاصة ، يلجأوون إليها كلما دعتهم الحاجة لأن في القراءة متعة لا تقل أهمية عن متعة الإبداع ذاتها ، وبالقراءة والدربة والممارسة في الكتابة يمكن للناشئ الموهوب تحقيق ما يصبو إليه من إنتاج عمل فني يرضى عنه ـ على الاقل – وربما كان مرضيا لجمهور المتلقين أيضا .